تحليلاتخاص

الجهل وثغرات القانون يُنعشان تجارة السحر والشعوذة في بغداد

بغداد / عراق أوبزيرفر

رغم التحولات الكبيرة التي شهدها العراق في العقدين الأخيرين على صعيد البنية التحتية التقنية والانفتاح على العالم الرقمي، لا تزال بعض الظواهر المرتبطة بالإرث الشعبي والخرافات تفرض حضورها بقوة داخل المجتمع، وأبرزها السحر والشعوذة، التي تحوّلت في بعض مناطق العاصمة بغداد إلى تجارة مربحة تديرها شبكات غير مرخّصة، تعمل في الظل وتستقطب عشرات الحالات أسبوعيًا.
وهذه الظاهرة، التي لطالما ارتبطت بالمناطق الريفية أو المجتمعات ذات المستوى التعليمي المحدود، لم تعد محصورة في أطراف المدن أو الأحياء الشعبية، بل انتقلت إلى أحياء راقية مثل زيونة، المنصور، الحارثية، واليرموك.

منصات التواصل
وتؤكد شهادات مواطنين أن هؤلاء “المعالجين” باتوا يستخدمون وسائل تسويقية حديثة لاستقطاب الزبائن، منها إعلانات ممولة على منصات التواصل الاجتماعي، أو رسائل عبر تطبيقات مثل “تليغرام” و”واتساب”، تتضمن وعودًا بعلاج الأمراض المزمنة وفكّ الربط و”رد المطلقة” و”جلب الحبيب”، وصولًا إلى خدمات تخصّ “الحسد”، و”السحر الأسود”، وتُعرض بأسعار متفاوتة تبدأ من 50 ألف دينار للجلسة الواحدة، وقد تصل إلى أكثر من مليون دينار في بعض الحالات التي توصف بأنها “معقدة”.
قصة مأساوية
تروي أم محمد الجبوري، وهي سيدة تبلغ من العمر 52 عامًا وتقطن في جنوب بغداد، كيف تحولت من مريضة بالصداع النصفي إلى ضحية عملية نصب محكمة.
وتقول في حديثها لـ”عراق أوبزيرفر”: “راجعت أكثر من مستشفى في بغداد والبصرة ولم أجد تحسّنًا، ثم نصحتني صديقة بزيارة شيخ يُقال إنه يعالج بالقرآن ويكشف أسباب الأمراض من خلال ماء مرقي”.
وتتابع: “في أول جلسة أخبرني بأنني محسودة منذ الصغر، وأن هناك سحرًا قديمًا مزروعًا في جسدي، وأنه يحتاج إلى ثلاث مراحل من العلاج تتضمن البخور، والماء، والطلاسم، وكل مرحلة تكلف أكثر من 80 ألف دينار”.
أم محمد دفعت نحو 250 ألف دينار خلال أسبوع واحد، لكنها لم تشهد أي تحسّن في وضعها الصحي. وتقول: “لم أشعر إلا بالخوف، خصوصًا بعد أن طلب مني عدم مشاركة ما أعطاني به أحد، وإبقاء الأوراق ملفوفة داخل وسادتي، والامتناع عن الصلاة لعدة أيام لأنها –بحسب كلامه– تفسد مفعول العلاج”.

تضيف: “حين بدأت أشعر بالخداع وأخبرته بنيّتي التوقف عن العلاج، هددني بأن السحر سيعود أقوى مما كان، وبأنني سأندم إذا انسحبت. هنا أدركت أنني وقعت في فخ”.

قانون غائب وثغرات مفتوحة
ويشير متخصصون إلى أن القانون العراقي لا يتضمن نصًا مباشرًا يُجرّم ممارسة السحر أو الشعوذة كجريمة مستقلة، بل تُندرج هذه الأعمال عادة ضمن مواد النصب والاحتيال.
وهذا ما يؤكده الخبير القانوني علي التميمي، الذي قال لـ”عراق أوبزيرفر”، إن “قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 يعاقب على هذه الأفعال باعتبارها من وسائل الاحتيال، استنادًا إلى المادة 456 التي تنص على الحبس لمدة لا تتجاوز خمس سنوات”.
وبيّن التميمي أن “العقوبة مخففة نسبيًا لأنها لا تتعامل مع هذه القضايا كجنايات أو تهديدات حقيقية للأمن العام، بل تعتبرها نتيجة تصرف طوعي من الضحية الذي يقدم المال بموافقته ودون إكراه، وهو ما يصعّب إثبات النية الجنائية المباشرة”.
ويضيف أن “منفذي هذه الأفعال يعتمدون على ثغرات في النص القانوني، ويتخذون من الصفات الدينية أو الروحية غطاءً للتمويه، مستغلّين الإطار الرمزي الذي تمنحه العادات والتقاليد لهم في بعض المناطق”.

خلفيات اجتماعية ودوافع متباينة
وبحسب متخصصين في علم الاجتماع، فإن أسباب لجوء الأفراد إلى هذه الممارسات تتفاوت بين الرغبة في علاج أمراض مزمنة، أو حل مشكلات أسرية، أو حتى الانتقام العاطفي، حيث يتم الترويج لأعمال شعوذة يُزعم أنها قادرة على تعطيل زواج، أو إبعاد منافس، أو كسب محبة شخص معين.
وتنتشر هذه الأفكار غالبًا في البيئات التي تعاني من هشاشة في البنية التعليمية، أو ضعف في الثقة بالمؤسسات الصحية والنفسية.

رغم غياب إحصاءات رسمية دقيقة، تشير تقارير صحفية وشهادات ميدانية إلى وجود أكثر من 200 شخص يمارسون “العلاج الروحي” في بغداد وحدها، بعضهم يُعرف بين الناس بـ”الشيخ” أو “الحاج”، وآخرون يقدمون أنفسهم على أنهم “معالجون بالطاقة” أو “مفسرو أحلام”، دون أي ترخيص أو رقابة من الجهات المعنية.

وفي حين تتجاهل المؤسسات الرسمية تناول هذا الملف بشكل مباشر، تتحدث مصادر أمنية عن حملات دورية تجريها بعض مراكز الشرطة بناءً على بلاغات من المواطنين، إلا أن هذه الإجراءات غالبًا ما تنتهي بالإفراج عن المتهمين لعدم كفاية الأدلة، أو لغياب النص القانوني الواضح الذي يجرّم السحر بذاته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
document.addEventListener("DOMContentLoaded", function() { if (document.querySelector("nojq")) { document.querySelector("nojq").addEventListener("click", function() { console.log("Element clicked!"); }); } });