
كركوك / عراق اوبزيرفر
مع حلول شهر رمضان، تتغير ملامح مدينة كركوك، وتتحول أزقتها وأسواقها إلى مساحات نابضة بالحياة، حيث تزداد اللقاءات والتجمعات بين الأصدقاء والجيران بعد الإفطار. وبينما يمضي البعض أوقاتهم في تبادل الأحاديث أو ارتياد المساجد، تكتظ المقاهي الشعبية بروّادها، الذين يجدون في لعبة الصينية وسيلة للترفيه والمتعة، متوارثة من الأجداد إلى الأبناء.
“رمضان بدون الصينية ما إلَه طعم”، بهذه الكلمات يصف الحاج عبد الله كمال، أحد كبار السن في كركوك، علاقته بهذه اللعبة. يجلس الحاج عبد الله مع مجموعة من أصدقائه في أحد المقاهي القديمة، يتابعون بحماس حركة الأكواب التي يحرّكها “المعلم”، محاولًا إخفاء الخاتم بخفة ودهاء. يقول وهو يضحك: “من كنا شباب، كنا ننتظر رمضان حتى نلعب الصينية. اليوم، رغم كل التغيرات، ما زلنا نحبها، لأنها تذكرنا بطفولتنا وبأيام الخير.”
أما الشاب أحمد كريم، فيرى أن اللعبة ليست مجرد تسلية، بل هي جزء من الهوية الثقافية للمدينة. يقول: “أنا تعلمت اللعبة من والدي، وكنا نلعبها سويًا كل رمضان. صحيح أن التكنولوجيا أخذت حيزًا كبيرًا من وقت الشباب اليوم، لكن لما نلعب الصينية نحس بروح رمضان الحقيقية، تجمعنا، وتخلينا نضحك وننسى همومنا.”
في زاوية أخرى من المقهى، يجلس علي التركماني، وهو رجل في الخمسينات من عمره، مسترجعًا ذكريات الماضي: “زمان، ما كان عندنا هذا الكم من وسائل الترفيه، لكن كنا نعيش الفرحة الحقيقية بلعبة بسيطة مثل الصينية. اليوم، حتى مع انتشار الهواتف الذكية والألعاب الإلكترونية، تبقى هذه اللعبة قريبة من قلوبنا، لأنها تحمل معاني الألفة والتواصل بين الناس.”
*تفاصيل عن اللعبة
رغم مرور الزمن، وتغير العادات، لا تزال لعبة الصينية صامدة في وجه الحداثة، محتفظة بمكانتها في ليالي رمضان الكركوكية، كإحدى الألعاب الشعبية التي تجمع بين التسلية والتراث، وتعيد إلى الأذهان أيام البساطة، حين كان اللعب والضحك يكفيان لصناعة السعادة.
عندما يحل شهر رمضان في مدينة كركوك، تنبض الأحياء والأسواق بروح خاصة تجمع بين العبادة والفرح، وبين الطقوس الدينية والعادات الاجتماعية المتوارثة. ومع اقتراب موعد السحور، وبينما تهدأ الحركة في الشوارع، تبدأ المقاهي والأزقة باستقبال عشاق إحدى أقدم الألعاب الشعبية وأكثرها إثارة للحماس: لعبة الصينية، التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من ذاكرة رمضان في المدينة.
يجتمع الرجال والشباب في حلقات، يحيطون بصينية معدنية أو خشبية، تتوزع عليها عدة أكواب مقلوبة، وتحت إحداها يختبئ خاتم صغير. يتولى أحد اللاعبين، والذي يُعرف بـ“المعلم”، إدارة اللعبة، حيث يبدأ بتحريك الأكواب بخفة وسرعة، محاولًا إرباك أعين المتابعين وإخفاء أي أثر لمكان الخاتم. تتعالى الضحكات والتعليقات المشجعة، فيما يحبس الجميع أنفاسهم ترقبًا للحظة الحسم، عندما يحاول الفريق المنافس تخمين مكان الخاتم. إذا أصابوا الهدف، يفرحون بالنصر، وإذا أخطأوا، يعيد المعلم حركته الساحرة من جديد، وسط جو من الحماس والتحدي.
لا تقتصر اللعبة على التسلية، بل تحمل في طياتها قيمًا اجتماعية عميقة. فهي تجمع أبناء الحي الواحد، وتقوي الروابط بينهم، حيث يجلس الجميع على الأرض أو على المصاطب، يتشاركون لحظات الفرح والمتعة بعد يوم طويل من الصيام. كما أن اللعبة تتجاوز حدود الفئات العمرية، فالشباب يتعلمون مهاراتها من الكبار، مما يضمن استمراريتها بين الأجيال.