
بغداد/ عراق أوبزيرفر
عاد ملف حرية التعبير والرأي في العراق إلى الواجهة مجددًا، مع تزايد التضييق الذي يواجه الصحفيين والنشطاء، وسط تحذيرات من مؤسسات حقوقية ومنظمات دولية بشأن مستقبل الحريات في البلاد.
وتتصاعد حدة التضييق على عدة مستويات، بدءًا من الملاحقات القانونية التعسفية، مرورًا بالفصل من العمل والتهديدات، ووصولًا إلى التصفية الجسدية.
ويرى مراقبون أن هذا النهج المتبع يهدف إلى إسكات الأصوات المعارضة وتكريس سيطرة الطبقة الحاكمة، في وقت يشهد العراق أزمات سياسية واقتصادية عميقة.
أرقام تكشف التدهور
وفقًا لتصنيف عام 2024 لمؤشر حرية الصحافة العالمي، حل العراق في المرتبة 169 عالميًا و12 عربيًا، منخفضًا درجتين عن تصنيف العام الماضي.
وانخفضت نقاط حرية الصحافة من 32.9 في عام 2023 إلى 25.4 في 2024، ما يعكس اتساع دائرة الانتهاكات.
وذكر المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان أن “مئات الانتهاكات سجلت خلال السنوات الثلاث الماضية، بما في ذلك الطرد التعسفي والملاحقات القانونية والترهيب”.
ويقول رئيس المركز، فاضل الغراوي، إن “المؤشرات الحالية تكشف عن اتجاه منهجي لتقييد حرية الصحافة، حيث يتم استهداف الصحفيين بمختلف الوسائل القانونية وغير القانونية”.
وأكد في تصريح صحفي، أن هذه الانتهاكات تُمارس ضمن استراتيجية تهدف لإفراغ الصحافة من مضمونها وإخضاعها لسيطرة السلطة.
واقعة صالح الحمداني
حادثة فصل الإعلامي صالح الحمداني من وظيفته بسبب تغريدة قارن فيها بين الأوضاع في العراق وسوريا أثارت موجة من الانتقادات، واعتبرت مؤشرًا واضحًا على ازدواجية التعامل مع حرية التعبير.
وتضامن مئات الصحافيين والمدونين والنشطاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مع الحمداني كما تم تداول بكثرة عبارة “انشد عمك” وهي العبارة الهامشية التي يضعها الحمداني بعد بوستاته.
واعتُبر الإجراء انعكاسا لنهج سلطوي يجعل حرية التعبير امتيازًا ممنوحًا يمكن سحبه عند أي انتقاد للسلطة.
ويشير صحفيون إلى أن “فصل الحمداني هو تجسيد لواقع الصحافة في العراق، حيث تحولت المؤسسات الإعلامية إلى منصات تروج للخطاب الرسمي وتشيطن الأصوات المستقلة”.
مشروع قانون حرية التعبير: تكريس القمع
مشروع قانون حرية التعبير الذي يجري مناقشته في البرلمان يثير جدلًا واسعًا، حيث يراه الكثيرون محاولة لتقنين القمع وتكبيل الحريات.
وينص المشروع على فرض قيود مشددة على التظاهر والنشر، وهو ما أثار قلقًا واسعًا من تأثيره السلبي على الحريات الأساسية، ويعلق ناشطون أن هذا القانون “يمثل خطوة إلى الوراء، ويعد خرقًا صريحًا للدستور الذي يكفل حرية التعبير والتظاهر السلمي”.
ويؤكد الناشط علي الحجيمي في تعليق صحفي، أن “القانون ليس سوى أداة إضافية لإسكات المعارضة ومنع انتقاد الفساد والإدارة الفاشلة”.
وأضاف أن “السلطة تسعى عبر هذا المشروع إلى خلق بيئة من الخوف تعيق أي محاولات للإصلاح أو كشف الفساد المستشري في مؤسسات الدولة”.
بين النصوص والممارسات
وكفل الدستور العراقي، وتحديدًا المادة 38، حرية التعبير بكل الوسائل، لكن التطبيق العملي يكشف عن تناقض كبير بين النصوص والممارسات، خاصة مع وجود قوانين قديمة تعود لعقود الشمولية لا تزال تُستخدم لتقييد الحريات، مثل المواد 433 و226 التي تُوظف في الملاحقات القضائية ضد الصحفيين والمدونين.
ويجعل استمرار العمل بهذه القوانين النصوص الدستورية مجرد واجهة دعائية، حيث تُستغل لتمرير سياسات تعزز الهيمنة الحزبية، كما أن هذه القوانين تُستخدم كسلاح ضد كل من يحاول الكشف عن الفساد أو تقديم رؤية مغايرة.
وظل التعامل الوحشي مع احتجاجات تشرين 2019 شاهدًا على نهج السلطة في قمع الحريات، حيث سقط أكثر من 800 شهيد وآلاف الجرحى خلال الاحتجاجات التي طالبت بالإصلاح ومحاسبة الفاسدين.
ويرى مراقبون أن هذه الأحداث كانت نقطة تحول في تقييد الحريات، حيث تزايدت بعدها الملاحقات القضائية والتهديدات ضد الناشطين والصحفيين.
تهديدات واغتيالات
وأصبحت هجرة الصحفيين والنشطاء إلى أربيل وتركيا ملاذًا للهروب من التهديدات، خاصة تلك التي تمارسها بعض المجاميع اللمسلحة، ويصف ناشطون الوضع بأنه “جمهورية خوف”، حيث أصبح النقد العلني للسلطة محفوفًا بالمخاطر.
وأشار تقرير لمنظمة “مراسلون بلا حدود” إلى أن العراق يُصنف من بين الدول الأكثر خطورة على الصحفيين، حيث سُجلت عشرات حالات التصفية الجسدية خلال العقد الأخير.
ازدواجية السلطة وأزمة الثقة
وتظهر الأحزاب الحاكمة ازدواجية صارخة في التعامل مع حرية التعبير، ففي الوقت الذي تُشهر فيه شعارات الديمقراطية، تُمارس قمعًا ممنهجًا ضد كل من يعارضها، إذ يرى نشطاء أن السلطة تريد من الإعلاميين أن يكونوا مجرد أبواق تهتف للزعماء، وتشيطن كل من يذكرهم بالفشل.
وتعاني المؤسسات الإعلامية في العراق من فقدان استقلاليتها، حيث أصبحت تابعة للأحزاب ومجاميع الظل، وتوصف عادة بأنها “منصات دعائية”، تسعى لتجميل صورة السلطة والترويج لإنجازات وهمية.
دعوات للإصلاح
في ظل هذه الأوضاع، تتزايد الدعوات المحلية والدولية لإصلاح التشريعات المتعلقة بحرية التعبير وضمان استقلالية المؤسسات الإعلامية، حيث طالبت منظمات حقوقية بوضع حد للممارسات القمعية، وإنشاء آليات قانونية تحمي الصحفيين والنشطاء من التهديدات.
وتسود مخاوف من أن ينزلق العراق للتحول إلى دولة قمعية تفقد فيها الديمقراطية جوهرها، مع استمرار القمع ضد الصحفيين والنشطاء، الذي يُنذر بتقويض أسس الدولة المدنية.